كتب الدكتور علي الوردي هذا الكتاب فصولاً متفرقة في أوقات شتى وذلك بعد صدور كتابه "وعّاظ السلاطين" وهذه الفصول ليست في موضوع واحد، وقد أؤلف بينها أنها كتبت تحت تأثير الضجة التي قامت حول كتابه المذكور، وقد ترضي قوماً، وتغضب آخرين. ينطلق الدكتور الوردي في مقالاته من مبدأ يقول بأن المفاهيم الجديدة التي يؤمن بها المنطق الحديث هو مفهوم الحركة والتطور.
مقتطف من الكتاب
ان المجتمع البشري لا يستطيع أن يعيش بالاتفاق وحده، فلابد أن يكون فيه شيء من التنازع أيضاً لكي يتحرك إلى الأمام.
والقدماء حين ركزوا انتباههم على الاتفاق وحده، انما نظروا الى الحقيقة من وجه واحد واهملوا الوجه الأخر. فهم بعبارة أخري: قد أدركوا نصف الحقيقة. أما النصف الأخر منها فبقي مكتوما لا يجرأ أحد على بحثه.
ات الاتفاق يبعث التماسك في المجتمع, ولكنه يبعث فيه الجمود أيضا. فاتحاد الأفراد يخلق منهم قوة لا يستهان بها تجاه الجماعات الأخرى , وهو في عين الوقت يجعلهم عاجزين عن التطور أو التكيف للظروف المستجدة.
أن التماسك الاجتماعي والجمود توأمان يولدان معا. ومن النادر أن نجد مجتمعاً متماسكاً ومتطوراً في آن واحد.
وقد اثبتت الأبحاث الاجتماعية أن المجتمعات البدائية التي تؤمن بتقاليد الآباء والأجداد ايماناً قاطعاً فلا تتحول عنها تبقي في ركود وهدوء ولا تستطيع أن تخطو الى الأمام الا قليلا.
وقد نجد في هذه المجتمعات الراكدة تنازعاً عنيفاً , هذا ولكن تنازعها قائم على أساس شخصي لا يمس التقاليد بشىء. وكثيراً ما يكون تنازعهم ناشئا عن تنافسهم في القيام بتلك التقاليد ومحاولة كل منهم أن يتفوق على أقرانه فيها.
ان التنازع الذى يؤدى إلى الحركة والتطور , يجب أن يقوم على أساس مبدئي لا شخصي. فالمجتمع المتحرك هو الذي يحتوي في داخله على جبهتين متضادتين على الأقل , حيث تدعو كل جبهة الى نوع من المبادئ مخالف لما تدعو اليه الجبهة الأخرى. وبهذا تنكسر كعكة التقاليد على حد تعبير بيجهوت. ويأخذ المجتمع إذ ذاك بالتحرك إلى الأمام.
ان المجتمع المتماسك يشبه الانسان الذى يربط احدى قدميه الى الأخرى فلا يقدر على السير. والرباط الاجتماعي مؤلف من التقاليد القديمة. فاذا ضعفت هذه التقاليد, وبدأ التنازع الفكري والاجتماعي, استطاع المجتمع أن يحرك قدميه ويسير بهما في سبيل التطور الذي لا يقف عند حد.
اذا رأيت تنازعاً بين جبهتين متضادتين في مجتمع, فاعلم أن هاتين الجبهتين له بمثابة القدمين اللتين يمشي بهما.
ومن الجدير بالذكر ان الحركة الاجتماعية لا تخلو من مساوىء رغم محاسنها الظاهرة. فليس هناك في الكون شيء خير كله أو شر كله. فالحركة الاجتماعية تساعد الانسان على التكيف من غير شك. ولكنها في عين الوقت تكلف المجتمع ثمناً باهظاً. اذ هي مجازفة وتقدم نحو المجهول. إنها تؤدي الى القلق والتدافع والاسراف في أمور كثيرة. والإنسان الذى يعيش في مجتمع متحرك لا يستطيع أن يحصل على الطمأنينة وراحة البال التي يحصل عليها الإنسان في المجتمع الراكد. إنه يجابه في كل يوم مشكلة , ولا يكاد ينتهي منها حتي تبغته مشكلة أخرى , وهو في دأب متواصل لا يستريح الا عند الموت. ولا يدري ماذا يجابه بعد الموت من عذاب الجحيم !
أن النفس البشرية تحترق لكي تنير بإحتراقها سبيل التطور الصاخب.
اذا ذهبت الى نيويورك أو باريس أو غيرهما من المدن العالمية الكبرى , وجدت الناس هناك في ركض متواصل وحركة لا تفتر ليلاً أو نهاراً. كلهم يسيرون على عجل. فإذا سألتهم: إلى أين؟ همهموا بكلمات غامضة واستمروا في سيرهم مسرعين.
بيانات الكتاب
الاسم: مهزلة العقل البشري
تأليف: علي الوردي
الناشر: دار كوفان تحميل الكتاب مجاناً
رقم الطبعة: الثانية
تاريخ النشر: 1994
الحجم: 4 ميجا